بين كلام عون وصمت الحزب: خيوط السلام تتسلل إلى لبنان
بين كلام عون وصمت الحزب: خيوط السلام تتسلل إلى لبنان
يبدو أن رياح التحوّل تهب على الشرق الأوسط مجدداً، وهذه المرة بقوة أكبر مما شهدناه منذ عقود. فبين سطور خطاب الرئيس الأميركي في الكنيست الإسرائيلي، وخطابه الآخر في قمة شرم الشيخ للسلام، قرأ الداخل اللبناني بوضوح الرسائل التي حملها الموقف الأميركي إلى دول المنطقة، ولا سيما الدول المجاورة لإسرائيل. الرسالة الأساسية كانت واضحة: لا خيارات كثيرة أمام هذه الدول سوى الانخراط في مسار السلام الإقليمي والتعامل مع إسرائيل بوصفها "جارة" لا "عدوّة".
في لبنان، لم يتأخر صدى هذا الخطاب في الظهور. فالرئيس جوزاف عون التقط الإشارات الدولية باكراً، وأعاد التذكير بأن لبنان سبق أن خاض مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية وأممية لترسيم الحدود البحرية، حين كان هو قائداً للجيش. تلك المفاوضات التي جرت في ظل توترات أمنية وتهديدات متبادلة، انتهت وفق ما أرادته واشنطن وتل أبيب، وتم تسويقها يومها داخلياً كإنجاز وطني يفتح باب الثروة النفطية. لكن بمرور الوقت، اتضح أن الاتفاق كان أقرب إلى ممر سياسي نحو مرحلة جديدة أكثر منه إنجازاً اقتصادياً.
اليوم، تأتي مواقف الرئيس عون في سياق مختلف تمامًا. ففي تزامن لافت مع قمة شرم الشيخ للسلام، أعلن أن لبنان يجب ألا يعاكس المسار التفاوضي السائد في المنطقة، مؤكدًا استعداد بيروت للحوار بشرط وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية. للمرة الأولى، يُعبّر رئيس لبناني بشكل واضح عن جهوزية البلاد للانخراط في عملية تفاوضية لا تحت ضغط الحرب، بل كخيار سياسي نابع من قراءة استراتيجية جديدة للواقع الإقليمي.
هذا الموقف، الذي لم يواجه برد علني من حزب الله، يُعدّ تطوراً نوعياً في الخطاب الرسمي اللبناني، خصوصًا أن الحزب كان تاريخيًا يعتبر أي حديث عن تفاوض أو سلام خيانةً "للقضية". إلا أن المعطيات تغيّرت جذرياً منذ حرب غزة الأخيرة، التي انتهت عملياً بانهيار حركة حماس وبتراجع كبير لمحور إيران بأجنحته، ما فرض على الحزب مراجعة حساباته بعد أن ربط مصيره السياسي والعسكري بمصير الحركة.
في موازاة ذلك، جاءت مواقف الرئيس الأميركي لتضيف بعداً آخر للقراءة اللبنانية. ففي الكنيست، أكد أن "حزب الله انتهى عسكرياً" وأن "الرئيس اللبناني يعمل على حصر السلاح بيد الدولة"، مشيداً بخطة الجيش في الجنوب. هذه الرسائل، وإن لم تكن موجهة مباشرة إلى بيروت الرسمية، إلا أنها عكست تحولاً في المقاربة الأميركية للبنان: من دولة متهمة بالعجز، إلى دولة يُمكن دعمها في بناء مؤسساتها الأمنية والسير نحو تسوية سلمية شاملة.
ومن الجانب الأوروبي، جدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التزام بلاده بدعم لبنان سياسياً وعسكرياً، عبر مؤتمرين مخصصين لدعم الجيش والإعمار، مشيداً بما سماه "القرارات الشجاعة الهادفة إلى حصرية السلاح بيد القوات الشرعية". هذا التقاطع بين واشنطن وباريس يوحي بأن الملف اللبناني بات جزءا من خريطة التسويات المقبلة، لا من ملفات المواجهة القديمة.
صحيح أن لبنان غاب عن قمة شرم الشيخ، لكن حضوره السياسي بدا واضحا في خطاب القادة الكبار، وتحديداً في تصريحات الرئيس الأميركي الذي حرص على التذكير بلبنان ودعم رئيسه، وكأن واشنطن تلوّح بأن الوقت قد حان لعودة هذا البلد إلى حاضنة النظام الإقليمي الجديد.
من الواضح إذاً أن لبنان يدخل مرحلة مفصلية. فبعد عقود من التوازنات "التجميلية" بين محور المقاومة ومحور الغرب، يبدو أن المعادلة تميل اليوم نحو خيار السلام الواقعي لا الأيديولوجي. هذا لا يعني اتفاقاً قريباً مع إسرائيل، بل بداية تحوّل تدريجي في الذهنية السياسية اللبنانية، تفرضه التطورات الإقليمية والضغوط الاقتصادية، وربما القناعة بأن الانخراط في السلام أصبح شرط البقاء لا خيار الرفاه.
في الخلاصة، ما يجري ليس إعلان سلام رسمي، بل تعديل مسار بطيء ومدروس نحو واقع جديد، يتجاوز شعارات الماضي، ويستند إلى قراءة دقيقة لموازين القوى. ولبنان، المنهك اقتصادياً والمثقل بملفات الانهيار، قد يجد نفسه في الشهور المقبلة أمام اختبار حقيقي بين مواكبة قطار السلام الإقليمي أو البقاء أسير شعارات الصراع.
ليبانون فايلز - علاء الخوري
- شارك الخبر: